ما هذا هو الحب
ما هذا الذي يلتهب بصدري
ليس قلبي ما يذوب
ليست عيني هي التي تبكي لرؤياكِ
ما هذا هو الحب
أحتضنك
ما هذا هو الحب
يا حبيبتي
ليس هذا – يا ابنتي – هو الحب
نَقِّل فؤادَكَ حيثُ شئتَ من الهوى .. ما الحبُ إلا للحبيبِ الأَوَلِّ .. كم منزلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفتى .. وحنينه دوماً لأول منزِلِ
ما هذا هو الحب
ما هذا الذي يلتهب بصدري
ليس قلبي ما يذوب
ليست عيني هي التي تبكي لرؤياكِ
ما هذا هو الحب
أحتضنك
ما هذا هو الحب
يا حبيبتي
ليس هذا – يا ابنتي – هو الحب
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي ينتابني فيها هذا الشعور السخيف .. فقد شعرت به من قبل عديدا من المرات ، وفي كل مرة كنت أنجح في قهره والتغلب عليه بعد مقاومة عنيفة تنتهي وأنا لاهث متعب خائف .. ولكن يبدو أن هذه المرة تختلف .. فأنا على وشك تنفيذ الفكرة التي تسيطر على ذهني .. وحقا .. لا أستطيع هذه المرة الهروب منها كما اعتدت من قبل .
أتذكر أول مرة راودتني تلك الفكرة الغريبة .. كنت في المصعد منتقلا إلى الدور الثالث في مستشفى الأورام السرطانية ، ذاهب لزيارة زميلي في العمل بعد الكارثة التي حاقت به ونقلته ، من مكتبه بجواري ، إلى سرير دائم في المستشفى الشهير منتظرا الوصول إلى المحطة الأخيرة ، مسليا وقته بالعلاج الكيماوي .. فُتِح باب المصعد لأجد وراءه العامل ، الذي تنحصر وظيفته في الضغط على الزر المكتوب عليه رقم الطابق المطلوب الصعود أو النزول إليه .. دار في ذهني أن هذه هي البطالة المقنعة بعينها ، فالرجل لا يفعل شيئا تقريبا ، يجلس على كرسي ، يضغط على زر ، ثم يصيح معلنا ، أو يعلن صائحا : الأول ، التاني ، التالت ، وهكذا .. ولكن كِبَر سن الرجل ، وشعره الأبيض الوقور ، وطريقة حديثه المهذبة جدا ، دفعوني للشعور بالشفقة والعطف عليه .. وتخيلت مصيره لو أنه فُصِلَ من عمله ، ومصير من بالتأكيد يعولهم .. ومع كل هذا التعاطف ، وبالرغم من الشعور الكبير بالرحمة الذي غمر قلبي ، تمكنت تلك الفكرة اللعينة من التسلل إلى عقلي لتحتل كياني كله في ثوان : أشعر بالرغبة الجارفة في أن أضرب هذا الرجل الطيب على قفاه !
حقا أريد أن أضرب الرجل العجوز ، الجالس أمامي في طيبة وانكماش ، على قفاه الكبير الظاهر من وراء الطاقية التي يرتديها .. أحاول مقاومة هذه الرغبة الجارفة .. أتخيل نفسي أضربه بالفعل ، وأشعر بالاستمتاع الشديد وأنا أتصور ردة فعله .. هل سيسألني لماذا فعلت ذلك ؟ أم يصرخ غاضبا ويسبني ؟ هل سيحاول أن يرد لي القفا ؟ أم تراه سينظر لي بحسرة ويقول : الله يسامحك يافندي ؟ يا إلهي .. انقذني من ذلك الشعور الكاسح في أعماقي .. أظل أتخيل رد فعل الرجل وأرسم سيناريوهات محتملة لذلك ، حتى أجد يدي على وشك التحرك من مكانها في جيبي لتستقر فوق قفاه .. ولكن لحسن الحظ – حظ الرجل وحظي – يصل المصعد إلى وجهته ويعلن الرجل الطيب : التالت ..
ظللت أفكر طويلا في مغزى هذا الشعور الغريب .. قلت لنفسي أنني ربما احتقرت الرجل نظرا لوظيفته غير المنتجة أو المفيدة من وجهة نظري ، أو أن بداخلي رغبة خفية في الاستبداد والافتراء على خلق الله الضعفاء ، وزاد من ترجيح هذا الاحتمال أنني شعرت بنفس الشعور تجاه الممرض ، الذي دخل إلى حجرة زميلي ، ليقوم بتغيير الزجاجة شبه الفارغة ، التي ينساب منها المحلول – الذي لا أعرف كنهه – إلى شريان صديقي الراقد على سرير المرض أو الموت .. لم يمنعني حزني الصادق والحقيقي من تخيل أنني أقوم من مكاني ، فأضرب الممرض – الذي يقوم بعمله بإخلاص – بقدمي في مؤخرته .. لا أشعر بأية رغبة في التعارك .. فقط أريد أن أفعل هذا ، ثم أرى رد الفعل .. التفكير في رد الفعل يكاد يسحرني ..
قاومت هذا الشعور أيضا ، وأكدت لنفسي أن بداخلي رغبة شريرة في ممارسة النفوذ والقوة على الضعفاء من الناس .. ولكن ما حدث في العزاء بعد أسبوع هدم هذا التحليل للأبد في أعماقي ..
وصل قطار زميلي إلى محطته الأخيرة بعد زيارتي له بأيام .. وفي سرادق العزاء ، راودني بقوة ذات الشعور الغبي .. كان يجلس أمامي رجل بنظارة طبية أنيقة بلا إطار ، يرتدي بذلة كاملة يخرج من جيب سترتها الأعلى منديلا بنفس لون ربطة العنق ، وكان الرجل مطرقا رأسه في حزن وأسى .. وبينما أحاول أن أبحث في ذاكرتي عن وجه الرجل علّه يكون من العاملين في نفس الشركة التي أعمل بها أنا وزميلي الراحل ، داهمني ذلك الشعور كثور هائج .. رأيت نفسي أقوم من مقعدي وأتوجه إلى الرجل ، فأصفعه على وجهه بالقلم ، ثم أعود فأجلس حيثما كنت ، وقاومت – ببطولة – ضحكة عالية كاد ينفجر بها فمي متخيلا ما سيفعله الرجل .. تخيلته ينظر إلي في بلاهة فاتحا فمه على مصراعيه ، مفكرا فيما ينبغي أن يفعل ليرد احترامه بين الناس الذين شاهدوا القلم يهوى على وجنته الحليقة .. ولم يستطع خيالي أن يرسم هذه المرة سوى ردة فعل تتمثل في كلمة واحدة : لييييييييييييييييييه ؟ .. تشاغلت في التفكير في أبنائي وزوجتي ومتطلبات البيت التي يجب أن أبتاعها بعد خروجي من العزاء ، حتى قام الرجل وانصرف ، وانصرفت بعده مباشرة مهنئا نفسي على المقاومة الرجولية التي أبديتها .
إذن فالموضوع ليست له علاقة بالمستوى الاجتماعي للشخص المطلوب صفعه .. هل يكون هناك ارتباط بين حالتي النفسية وبين هذا الشعور ؟ ربما كان حزني الشديد على زميلي ، وعجزي عن مساعدته ، سببا وراء احساسي في القيام بعمل عدواني تخرج من خلاله الطاقة السلبية المترسبة داخلي ؟ ربما ..
مات بدوره هذا الاحتمال داخلي بعد تعدد المرات التي يجتاحني فيها الشعور السابق ذكره ، وتعدد الحالات النفسية التي يزورني خلالها .. فهو يأتي وقتما يشاء ؛ وأنا حزين أو سعيد ، غاضب أو مستريح ، ولا يميز بين رجل أو إمرأة .. وبمرور الوقت ، توقفت عن التفكير في سببه ، وواظبت فقط على مقاومته .. حتى جاء ذلك اليوم المشئوم الذي أعيشه الآن ..
كانت ليلة حفل زفاف ابنتي الكبرى ، وعلى مائدتي يجلس رجل – ذو هيبة – وإمرأة – تبدو راقية – دعتهما دعتهما زوجتي إلى الحفل .. قابلت الرجل من قبل مرة واحدة في حياتي بينما أنتظر زوجتي وقت خروجها من العمل ، أذكر كلمات المجاملة التقليدية التي تبادلتها مع الرجل يومئذ ، ولكنها ( لا الكلمات ولا المناسبة السعيدة التي أحياها الآن ) – للأسف – بقادرة على أن تمنعني من أن أصفع هذا الرجل الذي لا أتذكر وظيفته ، وعما إذا كان رئيسا أم مرؤوسا أو زميلا لزوجتي في العمل ، سأريح نفسي من عناء المقاومة ولو لمرة واحدة في حياتي .. سأضرب هذا الرجل .. الآن ..
أتحرك من مكاني متوجها – كالسائر أثناء النوم – ناحية الرجل ، الذي ينظر لي بعين باسمة ، وبأيد مصفقة تتراقص مع الموسيقى الصاخبة المصاحبة لغناء المطرب ، الذي يشدو بأغنية لا أفهم كلمة من كلماتها رغم أنها بالعربية .. لا توقفني الابتسامة ولا الأيادي المصفقة .. أرفع يدي عاليا وأهبط بها فوق صدغ الرجل في قوة ..
والآن .. وبعد شهر من هذا اليوم التاريخي .. وبينما أنا جالس في المنزل بجوار زوجتي ، التي استقالت من عملها بعد أن تبين أن الرجل كان رئيس مديرها في العمل .. وبينما يمر في خاطري ما حدث بعد القلم الشهير ، حيث حماني إبني الوحيد من يد الرجل التي كادت تبطش بي وهو يتفوه بألفاظ خارجة .. كنت مازلت أستغرب رد فعل الرجل ؛ فلم يتوقف ليسألني لماذا ضربته .. أو حتى يتسائل داخل نفسه عما إذا كان ارتكب ما يستحق عليه الضرب أم لا ، فقط ثار وهاج وحاول أن يرد لي الصفعة ، ولكنه فشل في ذلك بسبب ابني والمدعوين الذين دافعوا عني بحرارة ، مقسمين بأغلظ الأيمان أن الرجل هو الذي بدأ بالعدوان ، مستندين في ذلك إلى معرفتهم الوثيقة بي ، وتأكدهم من أنني لن أفعل شيئا كهذا دون سبب قوي وحجة منطقية ، وعندما فشلوا في معرفة السبب ، سرت شائعة داخل أوساط العائلة بأن الرجل كان يضطهد زوجتي في العمل مما دعاني لعقابه واهانته .
ولأول مرة منذ راودني هذا الشعور في مصعد المستشفى ، تذكرت حوارا دار بيني وبين زميلي – صديق عمري وطفولتي – فور اكتشفانا سويا حقيقة مرضه ، ومعرفتنا بأن النهاية آتية لا ريب فيها : أخبرني صديقي أنه راض بقدره ، ولكنه فقط يريد أن يعرف ، ويتمنى أن يعرف ، حتى بعد أن يصل قطاره لمحطته الأخيرة : لماذا كانت البداية – بداية رحلة القطار – وفيم تكون النهاية .. وأتذكر ردي عليه وقتها بأننا نسير ونحن لا نعرف من أين بدأت رحلتنا ، وإلى أين نحن ذاهبون .. وخلال الرحلة ، نمر على ملايين الأشياء الغريبة والعجيبة فلا نتوقف لنندهش ، وإذا توقفنا لحظات ، فإننا سرعان ما نستكمل الرحلة بحماس وسرعة ، كما لو أننا واثقون من صحة خط السير ، وعارفون بطبيعة المحطة الأخيرة ..
أشعر بالرضا لأول مرة منذ عرفت ذلك الشعور الغريب ، وأغمض عيني مبتسما موقنا من صحة ما قلته لصديقي .